تعتبر مرحلة الطفولة إحدى أهم المحطات الرئيسة في حياة الإنسان إن لم تكن أهم تلك المحطات على الإطلاق، لأن تلك المرحلة هي الأرضية التي تخلق الحالة النفسية العامة للطفل والتي تحدد مسيرة تطور المرء وتحدد معالم شخصيته وأبعاد تلك الشخصية وكيفية تطورها مستقبلا.
لذا تعمد المجتمعات بشتى أنواعها على تربية الفرد التربية الصحيحة من أجل إنشاء جيل تستطيع الإستفادة منه، فالأسرة الناجحة هي التي تضم أفرادها في إطار واحد تجمعهم المحبة والألفة ويرعاها أب حنون وأم حنونة.
وكثيرا ما ننسى دورنا تجاه الطفل في إعداده الإعداد التربوي النفسي المتوازن وهذه من أهم سلبيات الأسرة والمجتمع تجاه الأجيال القادمة. فالطفل حين يولد يكون صفحة بيضاء صافية فاقدة للمعرفة " وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا ".. الآية (النحل/78)، ولكن الله قد جهز الطفل بالغرائز المختلفة لاستمرار حياته.. وحيث أن الغرائز الفطرية هي من الإفاضات الإلهية في الطفل، والتي تجعله مهيأ ومتجاوب مع كامل محيطه من صنوف التربية والتعامل والبيئة والتعود إلى قول، وفعل وعمل المشرفين عليه من الوالدين والإخوة و الأقارب والزائرين والمعلمين وكل من لهم صلة " بعالمه ". فعلينا الإنتباه والتنبه لكل ما يدور ولكل ما نفعل نحن تجاه الطفل، فالعدسة اللاقطة والمصورة والسامعة للطفل " ترصد " كل حركاتنا وقولنا وفعلنا فيبدأ الطفل بالتقليد والعمل والقول " مثلنا ".
والحقيقة أن هناك أرضية مشتركة بين الإدارة كعلم والأسرة كمؤسسة تربوية.
فالإدارة الحديثة تنقسم من حيث المفهوم إلى عنصرين هامين أحدها: إدارة الموارد البشرية "الأطفال" والآخر إدارة المعلومات "فن التوجيه"، وقد تركز مفهوم الإدارة الحديثة على أولوية تقديم العلاقات الإنسانية والإتجاه والسلوك الإنساني في بيئة العمل "البيئة الأسرية".
فإلى جانب وظائف الإدارة التقليدية، والتي تتلخص في التخطيط، التنظيم، القيادة، التنسيق والتحكم ( السيطرة )، فقد ركزت النظرية الحديثة في حقل الإدارة على إدارة الموارد البشرية "الأطفال" في المؤسسات الأسرية، ولكن الوظيفة التثقيفية للأسرة لايمكن تجاهلها حيث أن إدارة الأفراد في المنزل ( المجتمع الصغير ) أمر حساس، ومن ثم يجب دراسة "السلوك الإنساني" في البيئة الأسرية والتي تعتبر أهم عنصر من عناصر إدارة الموارد البشرية "الأطفال" في المؤسسات الأسرية المختلفة.
إن السلوك الإنساني يتحرك بسبب وجود حاجات غير مشبعة ( حسب تسلسل الحاجات الإنسانية للعالم النفسي إبراهام ماسلو ). إن حاجات الإنسان تحدث في تسلسل معروف ومتوقع، إذ يعرّف السلوك بأنه جميع ما يصدر عن الإنسان أثناء تفاعله مع البيئة وتوافقه معها. ويأتي "فن التوجيه" عندما يكون منطلقا من المفهوم ومنطبقا، وأيضا في نطاق غذائي وصحي، عندها تكون النتيجة ظهور المزايا الصحية والسلوكية والتي ستعود على الفرد وعلى المجتمع ( البيئة الأسرية ) بالنفع والفائدة نحو خلق سلوك يؤثر ويتأثر به بقية الأفراد المحيطة بالطفل.
ثقافة الطعام:
تعتبرالسنوات الأولى من حياة الإنسان من المراحل المهمة التي تتشكل فيها سلوكياته الصحية والغذائية. وكذلك البيئة المحيطة بالطفل تؤثر في نمط التغذية.. والذي قد ينعكس ويُغرس في سلوكياته اليومية إلى أن تصبح قناعة شخصية تتجسد في طبعه وطبائعه.
ومنذ اللحظات الأولى لنشأة الطفل وهو جنين في رحم أمه يتأثر تأثرا كبيرا بالسلوك الخارجي للأم في التربية والتغذية السليمة، وكما للمقدرات الإلهية التفصيلية للطفل من الصلاح والفساد والجمال والقبح والنواقص والكمالات الظاهرية والباطنية كلها تُخَطـّط والجنين في رحِم أمه، كذلك للغذاء دور كبير وهام في بناء جسم الطفل من حيث الخَلق والأخلاق. وعلى سبيل المثال لا الحصر، الفواكه والخضراوات التي تحتوي على فيتامين (ب) تعتبر العلاج القطعي للكة اللسان (اللعثمة) والأم التي تتناول من هذا الفيتامين أيام حملها فإن جنينها يأخذ بالتكلم مبكرا ولا يصاب باللكة في اللسان. كما أن المشروبات الرّوحية تعتبر خطرة جداً على الحامل لأنها بغض النظر عن التسمم الذي تُحدثه، تقوم أيضاً بهدم الفيتامينات التي تحتاجها الأم والجنين أيام الحمل، فينشأ الطفل ناقصاً ومشوهاً. وكذلك تناول الأطعمة الفاسدة واللحوم على وجه التحديد تؤدي إلى التسمم وتجعل لون الجنين داكناً مائلاً إلى الإصفرار. وكما جاء عن الرسول الأعظم (ص) قال: "أطعموا المرأة في شهرها الذي تلد فيه التمر فإن ولدها يكون حليماً تقياً".
ومما سبق يتضح لنا الدور الذي نستطيع القيام به بعد توفيق الله تعالى لتحديد الصفات الجيدة والمحافظة على صحة الطفل وهو في بطن أمه. وبعد الولادة وفي الأيام الأولى للطفل وهو رضيعاً يمكن أن تتوجه الأم في غرس القناعة في طفلها بتحديد أوقات الرضاعة وتنظيمها، ومن ثم تعويده على الأطعمة البسيطة المتوفرة والمتاحة في كل بيت ليعتاد على الطازج من الأطعمة لا المعلب منها، حتى إذا كبر صارت تلك الأطعمة المحتوية على المواد الضارة من المواد الملونة والحافظة وكذلك ذات السعرات الحراراية العالية مرفوضة تماماً لديه. وكذلك من المفيد توجيه الطفل لاكتساب فضيلة ترشيد الإنفاق لانعكاسها ايجابيا على صحته، إذ أن تحديد مصروف يومي بمقدار معين يجعل الطفل يتحرك ضمن ميزانية يومية محددة، وبالتالي هي تحد من الإفراط في تناول الأطعمة ذات المردود السلبي على الصحة، ولا يفوتني أن أنوّه على أمر ضروري يوقع فيه الأبوين في مأزق مع الطفل أثناء التسوق الشهري أو غيره في أماكن التسوق الكبرى للأغذية، وبالقرب من المحاسب يأتي الطفل لوالديه بنوع أو أكثر من الأطعمة ذات القيمة الغذائية الغير مناسبة صحياً له بالرغم من أن أبويه قد تركا له المجال في اختيار أغذية مفيدة مسبقاً. هنا يجب أن نرجع معه خطوة إلى الوراء ونعرفه الفرق بين ما تم اختياره مسبقا وما هو بيده الآن، وكذلك يتطلب من الأبوين مقاومة دموع التماسيح لدى الأطفال ومع الإصرار يحصل القبول والقناعة لديه. وكذلك خلق روح المبدأ القائل "كل مشروك مبروك" بين الأبناء أمراً طيباً. فمن الصفات التي توجد مع الإنسان غريزة حب "التملك" و "التفرد" بمعنى أن الطفل يحب أن يمتلك الطعام المعين بحيث لا يتقاسمه مع أحد من إخوانه أو أقرانه، وكما هو على صعيد لعب الأطفال، حيث أن الدور الذي تؤديه اللعبة في إطار الممارسة الجماعية ( كما عبر عنها العالم النفسي فرويد ) بوضعه تقارباً كبيراً بين اللعب الخيالي واللاشعوري، حيث أنه يمنحنا الإنتباه إلى كون اللعبة تعطي الأولوية للحركات ولردات الفعل اللاشعورية والتي تجعلنا نعايش أوضاعاً وحالات خيالية أو حقيقية. لو استطعنا إيصال هذا المفهوم العلمي بصورة وبلغة مبسطة سوف نخلق في الطفل روح حب المشاركة الجماعية.
ومن منطلق المثال المذكور عن اللعب يمكن إفهامه عن دور المشاركة الجماعية في الطعام في مشاركة الإخوان والأقران من إدخال الفرحة والسرور، وكذلك عدم تناول الكميات الكبيرة التي تضر بصحة الفرد إذا تناول الأكل بمفرده وبإسلوب سلس. قد نفشل في الوهلة الأولى ولكن مع الإستمرار سوف نصل بالطفل إلى قناعة تغرس فيه (حب المشاركة)، فلا يحب أن يأكل لوحده إلا مع مشاركة زملائه.
تعزيز الثقة:
إن إيصال رسالة إلى الطفل من أبويه أن باستطاعتهما اختيار الطعام المفيد له، والتحدث معه عن أهمية الغذاء لتنمية قدراته، سوف يجعل الطفل يثق بنفسه ويساعده على أن يظهر أفضل ما لديه من قدرات ومواهب وأفعال إلى جانب ما لديه من رغبة شديدة في النجاح والتفوق. وذلك لأن أي فعل سلوكي يقوم به الإنسان يتطلب العقل والجسم معا، والذي يشترط فيه التغذية السليمة التي هي الطريق للصحة. وواحدة من أكثر الطرق شيوعاً لزيادة وتنمية الثقة بالنفس هي زيادة المهارات، إن تشجيع الطفل وتحفيزه للمنافسة مع نفسه أو آخرين ذوي قدرات أو مهارات، والتي منها تحفيزه بأقرانه من حيث حسن تناولهم للطعام الذي يساعدهم في الذكاء. وهنا يتطلب خلق المنافسة المماثلة بدلاً من المنافسة مع أشخاص أكثر منه خبرة، فإذا كان الطفل من المبتدئين فمنافسه لابد أن يكون مبتدئاً ( مقارباً لسنه ) وليس متمرساً. وأيضا لا بد من الإشادة بمدى تحسنه وتقدمه بالمقارنة بما كان عليه في السابق من أنه يقوم بفعل الشئ برضا وقناعة نفس لا بالإجبار والخوف وهذا يساعدنا في إيصال رسالة الإقناع.
إن تفهمنا لحقيقة ما يقوم به الطفل من تصرفات قابلة للصح والخطأ سيعطينا عمقا أكثر نحو تربية أفضل بإذن الله تعالى.
وعالم السلوك عند الأطفال عالم واسع يدور حول محور أساسي وهو أن الطفل يتحرك في الواقع الذي يعيشه بسلوك عفوي لايستطيع معه أن يخفي ما يشعر به. وأكثر ما يؤلمه الإستخفاف بمشاعره وتجاهلها، ويجب ملاحظة ذلك عند توجيهه لطريقة خاطئة أثناء تناوله للطعام. فهو يريد من والديه وجميع من حوله أن يتفهموا شعوره إن كان غاضبا أو غيورا أو خائفا أو حزينا، فأخذ كل ذلك بعين الاعتبار يساعد في الوقاية من الاضطرابات النفسية التي تحدث وقد تنعكس على سلوك الطفل الغذائي. فإذا ما أخطأ فهو يريد توجيها نحو نقطة معينة يفهمها بسلوكه الخاص.. فهو لن يدرك سبب السخرية من سلوكه ولن يربط بين ما ارتكب من خطأ وبين الشتم واتهامه بالغفلة تارة وبالغباء أخرى.
وبالرغم من الإخفاقات التي قد يقع فيها الأبوين إلا أنهما يجب أن يضعا قاعدتين تساعدهما في الإيصال والوصول إلى مرسى الإقناع مع الشخص المراد إقناعه وهما: "المرء على ما منع حريص" و "الرضا بما قسمه الله تعالى اليك".
عادة ما يزن الطفل كل الحقائق قبل أن يضعها في صورة مسلمات أو قناعات عن نفسه، وأن أي تصرف سيكون بناء على قناعته بقوة إرادة السلوك أكثر من تأثير العاطفة، والعاطفة ستأخذ وقتاً حتى تتغير لتدعم قناعة جديدة. والثقة بالنفس هي النجاح الذي سيدفع طفلك ليكون أفضل ما يكون عليه، فإن "القناعة كنز لا يفنى".
إن الاهتمام بالطفل دليل على الوعي. ولكي نجسد هذا الإهتمام فإن الاحتفال بيوم الطفل العربي والموافق السابع من ديسمبر من كل عام يعكس مصداقية المجتمع في هذا الجانب. إن الاهتمام بالطفولة من قبل المؤسسات الاجتماعية والحكومية مؤشر حيوي لمستوى وعي المجتمع واهتمامه بأهم ما يملك (رجال وأمهات المستقبل).